الثورات العربية .. تاريخ الغضب
لا يمكن الحديث عن تاريخ الثورات في العالم العربي دون التعرض لما يجري علي أرض الواقع من ثورات عربية ، جاءت بعد طول جمود ، وحركت بركة المياه الراكدة في أرجاء الأقطار العربية ، ولا شك أن إرهاصات ومقدمات هذا الحراك الثوري الشعبي العارم يعود إلي سنوات مضت ، تراكم فيها مخزن الغضب الناتج عن القمع السياسي والتهميش الاجتماعي ، والتفاوت الفاحش في مستوي المعيشة بين طبقة الحاكمة وأتباعها ، وبين جموع الشعوب التي تعاني الفقر والحرمان .
ولعل أحد أهم الأسباب التي أدت إلي اندلاع الثورات العربية التي نشهدها حاليا ، هو اتساع الفجوة الحضارية والمعرفية بين السلطات الحاكمة التي تستخدم أدوات وآليات تنتمي لحقب سابقة ، وبين أجيال جديدة تختلف في نمط التفكير واستخدام وسائل الاتصال الحديثة ، وتخلف حتي في لغة التخاطب وطريقة ارتداء الملابس ، فبدت السلطات والأنظمة الحاكمة وكأنها تحكم في الألفية الثالثة بأدوات وآليات ونمط تفكير حقبة الستينيات في القرن الماضي .
وإذا علمنا أن الشباب (الفئة العمرية بين 15 و29 سنة) يشكل أكثر من ثلث سكان العالم العربي بما يعرف بالطفرة الشبابية. وتعاني تلك الفئة أشكالا متعددة من الإقصاء والتمييز جعلتها ساخطة علي الأوضاع الراهنة. وبالرغم من الثروات البشرية والطبيعية الهائلة التي تتمتع بها المنطقة العربية، فإنها شهدت في العقود الأخيرة خللا كبيرا في منظومة توزيع الثروة، حيث استأثرت نخب ضيقة ذات ارتباط وثيق بالسلطة بمقومات الثروة، بينما همشت قطاعات واسعة من المجتمعات العربية. وقد تزايدت تلك الظاهرة في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، مع التوجه لتبني آليات السوق والتجارة الحرة، وتراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة. كما تعاني المنطقة العربية القمع، والاستبداد، وغياب الحقوق والحريات، وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، مع تركيز السلطة في يد نخب ضيقة مرتبطة بالحزب أو الأسرة الحاكمة ، فمن هنا يمكن أن ندرك حجم الهوة بين النظم القائمة وبين الشعوب .
ويعاني الشباب أيضا تدني مستويات الأجور، وسوء ظروف العمل، حيث يعمل نحو 72% من الشباب في القطاع غير الرسمي. وقد أثر كل ذلك بالسلب في الظروف الاجتماعية للشباب في الوطن العربي، حيث تفشت ظاهرة العنوسة، وتأخر سن الزواج بشكل كبير. ووفقا للتقارير الدولية، فإن أكثر من 50% من الذكور في المرحلة العمرية من 25 إلي 29 لم يسبق لهم الزواج، وهي النسبة الأعلي بين الدول النامية. ومن ناحية أخري، يعاني الشباب في العالم العربي إقصاء سياسيا واضحا، حيث أدي غياب الحريات السياسية والمدنية، وضعف الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان إلي انصراف الشباب عن المشاركة السياسية من خلال القنوات الشرعية.
وبالرغم من الثروات البشرية والمادية الهائلة التي تتمتع بها دول المنطقة، فإن النظم العربية أخفقت في تحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. لا تزال قطاعات واسعة من الشعوب العربية تعاني الأمية، والبطالة، وتدني مستويات الدخل، وغياب الخدمات والمرافق، كما أن الفجوة بين الطبقات والمناطق في الدولة الواحدة في اتساع مستمر. وقد أدي تفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وتفشي الفساد بشكل واسع، واستئثار نخب ضيقة مرتبطة بالسلطة بعوائد التنمية إلي تزايد حالة السخط السياسي والاجتماعي، وظهور حركات احتجاجية علي نطاق واسع في العديد من الدول العربية. ومع اتجاه عدد من الدول العربية إلي تبني سياسات التحرير الاقتصادي واقتصاد السوق في السنوات الأخيرة، تراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي للدول العربية بشكل ملحوظ، مما أثر بالسلب في قطاعات واسعة كانت تعتمد بشكل كبير علي دعم الدولة. وقد تزايدت بالتالي مظاهر الفقر والتهميش، واتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل ملحوظ، وشهدت عدة دول عربية تصاعدا في وتيرة الاحتجاجات العمالية والفئوية المطالبة برفع الأجور، ومحاربة الفساد، والغلاء، وتحسين الظروف المعيشية للعمال.
ويشير الدكتور جلال أمين المفكر الاقتصادي المعروف أنه 'في (تونس وليبيا)، حدث تحسن في المؤشرات التي يعلق عليها الصندوق (النقد الدولي) أهمية، ويقيس بها النجاح والفشل، بينما حدث تدهور في المؤشرات التي يتجنب الصندوق الكلام عنها، ولا يعيرها اهتماما في توزيع عبارات الثناء أو النقد: معدل نمو الناتج القومي يرتفع، ومعه متوسط الدخل، والاستثمارات الأجنبية تزيد. (حدث هذا في تونس في العشرين سنة الماضية، وبدأ يحدث في مصر منذ ست سنوات). ولكن حدث التدهور الشديد في ثلاثة أمور لا يحب الصندوق أو المؤسسات المإلية الدولية الحديث عنها إلا مضطرة وهي: زيادة البطالة، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وزيادة انكشاف الاقتصاد أمام المتغيرات العالمية، ومن ثم زيادة تأثره بما يحدث في الخارج من تقلبات. كانت النتيجة أن تونس، بعد أكثر من عشرين عاما من تطبيق سياسة الصندوق، زاد الناتج القومي فيها بمعدل يفوق 5% سنويا (أي أكثر بنحوالخمس مما حدث في مصر)، ولكن زاد أيضا معدل البطالة بشدة، فأصبح أكبر من معدل البطالة في مصر بنحو 50% (14% من إجمإلي القوة العاملة بالمقارنة ب- 9% في مصر، طبقا للإحصاءات الرسمية التي يرجح أنها أقل بكثير من الحقيقة في الدولتين). كذلك، اتسعت بشدة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فأصبحت أكبر بكثير منها في مصر (أغني 10% من السكان في مصر يحصلون علي 8 أضعاف ما يحصل عليه أفقر 10% من السكان، بالمقارنة ب- 13 ضعفا في تونس)، طبقا لإحصاءات الأمم المتحدة عن سنة 2007/2008. والأرجح أن الحقيقة أسوأ هنا أيضا بكثير، إذ إن كثيرا مما يحصل عليه الأغنياء لا يري ولا يحسب'
ومن الملاحظ أن معدلات التنمية البشرية -طبقا لتقرير الأمم المتحدة الإنمائي- لا تعكس الواقع في عدد من الدول العربية. فالجماهيرية الليبية تأتي في الموقع 53، وهذا يمثل مستوي مرتفعا في التنمية البشرية. أما تونس، فتقع في الموقع 81، ومصر في الموقع 101.
أولاً تونس .. الشرارة :
يوم الجمعة 17 ديسمبر من عام 2010 قام شاب تونسي يُدعى محمد البوعزيزي وهو من حاملي الشهادات الجامعية العاطلين عن العمل بإضرام النار في نفسه احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية في مدينة سيدي بو زيد لعربة يبيع عليها الفاكهة والخضار، وللتنديد برفض سلطات المحافظة قبول شكوى أراد تقديمها في حق الشرطية فادية حمدي التي قامت بصفعه أمام الملأ. وأدى ذلك إلى اندلاع مواجهات بين مئات من الشبان في منطقة سيدي بوزيد وولاية القصرين مع قوات الأمن يوم السبت 18 ديسمبر 2010 خلال مظاهرة للتضامن مع البوعزيزي والاحتجاج على ارتفاع نسبة البطالة والتهميش والإقصاء في هذه الولاية الداخلية، وانتهت الاحتجاجات باعتقال عشرات الشبان وتحطيم بعض المنشآت العامة. وتوسعت دائرة الاحتجاجات بولاية سيدي بوزيد لتنتقل الحركة الاحتجاجية من مركز الولاية إلى البلدات والمدن المجاورة كالمكناسي والرقاب وسيدي علي بن عون ومنزل بوزيان، حيث خرج السكان في مسيرات حاشدة للمطالبة بالعمل وحقوق المواطنة والمساواة في الفرص والتنمية، وقد تطورت الأحداث بشكل متسارع وارتقت الاحتجاجات لتأخذ طابع سياسي ومطالبة الشعب بتنحي الرئيس بن علي عن منصبه وبالحريات ومحاسبة العابثين بالأموال العامة والتحقيق بقضايا الفساد
يوم الجمعة 10 صفر 1432 هـ الموافق 14 يناير 2011 أجبرت الانتفاضة الشعبية الرئيس زين العابدين بن علي الذي كان يحكم البلاد بقبضةٍ حديدية طيلة 23 سنة على مغادرة البلاد بشكل مفاجئ إلى السعودية، حيث وصلت طائرته إلى جدة بالسعودية. وقد رحب الديوان الملكي السعودي بقدومه وأسرته إلى الأراضي السعودية، وجاء في بيان للديوان الملكي السعودي نشرته وكالة الأنباء السعودية أنه "انطلاقًا من تقدير حكومة المملكة العربية السعودية للظروف الاستثنائية التي يمر بها الشعب التونسي الشقيق وتمنياتها بأن يسود الأمن والاستقرار في هذا الوطن العزيز على الأمتين العربية والإسلامية جمعاء وتأييدها لكل إجراء يعود بالخير للشعب التونسي الشقيق فقد رحبت حكومة المملكة العربية السعودية بقدوم فخامة الرئيس زين العابدين بن علي وأسرته إلى المملكة. وأن حكومة المملكة العربية السعودية إذ تعلن وقوفها التام إلى جانب الشعب التونسي الشقيق لتأمل ـ بإذن الله ـ في تكاتف كافة أبنائه لتجاوز هذه المرحلة الصعبة من تاريخه
ثانيا الثورة المصرية وأصدائها في العالم العربي :
بينما ركزت وسائل الإعلام عدستها على ميدان التحرير لرصد الاحتفالات المصرية بانتصار الثورة السلمية والإطاحة بنظام حكم الرئيس المصري حسني مبارك، كانت الاحتفالات تعم العالم العربي بأكمله من رام الله إلى عمان الى اليمن وغيرها. فالعديد من العرب رأى بنظام مبارك كجدار برلين الذي تلا سقوطه تحولا كاملا في اوروبا، فلمصر أكبر دولة عربية تأثير واسع في الشرق الأوسط وفي حال تحولها إلى الديمقراطية فان ذلك كان له اثر ملموس في جميع الدول العربية. وربما يكون ذلك سبب انشغال العديد من الزعماء العرب طيلة أيام الثورة المصرية بالضغط على أمريكا وأوروبا من أجل دعم مبارك ضد إرادة الشعب المصري.
ومن الناحية المعنوية فان الثورة المصرية أثبتت بان استراتيجية المقاومة السلمية تستطيع الانتصار على السلطات مهما كان عتادها ونوع سلاحها وقوة قمعها. "سلمية سلمية" كان احد هتافات المتظاهرين المصريين على مدى ثمانية عشر يوما وبالفعل كان أهم ما ميز الثورة المصرية ضد النظام هو امكانيتها في البقاء سلمية الى حد كبير بالرغم من الاستفزاز المستمر من النظام المصري الذي احتاج الى تحول المتظاهرين نحو العنف ليبرر قمعهم.
إن حركة المقاومة السلمية في مصر استطاعت جلب انتباه العالم بأكمله واستمالة تأييد شعوب العالم رغما عن قياداتها واستطاعت الانتصار حتى في الوقت الذي وقف فيه قادة العالم قلبا وقالبا إلى جانب النظام المصري. إن انتصار الثورة السلمية في مصر هو دليل لكل من يشك في إمكانية انتصار الحركة السلمية ضد الاحتلال في فلسطين، إن الثورات السلمية هي أصعب أشكال النضال ضد الاستبداد، فالمصريون لم يكونو سلميين دون دفع ثمن غال للخيار السلمي. فقد ضحوا بمئات الشهداء وآلاف المصابين . ولكنه كان الخيار الأصح استراتيجيا ومن ناحية المبدأ.
ثالثا ليبيا .. الشعب يواجه المجزرة:
بدأت الاحتجاجات الليبية بدعوة عدد من الشباب ليوم غضب يوافق السابع عشر من فبراير 2011 (10). وأعلن المؤتمر الوطني للمعارضة الليبية وناشطون ليبيون انضمامهم ليوم الغضب الليبي، كما أيد الدعوة أيضا المعارضون الليبيون في المنفي. ثم ساند عدد من القبائل تلك التظاهرات. وسوف يكون دور القبائل في ليبيا محوريا في حسم الصراع الدامي الدائر هناك، حيث تزداد أهمية دور القبائل بسبب عدم وجود جيش قوي. ومن ضمن القبائل التي انضمت إلي الاحتجاجات: قبيلة ورفلة (وقد انضمت إلي الاحتجاجات يوم 20 فبراير 2011 وهي أكبر قبائل ليبيا)، وقبيلة ترهونة، وقبيلة الزوية في جنوب ليبيا في المناطق النفطية، وقبائل الطوارق في الجنوب، وقبيلة الزنتان، وقبيلة بني وليد، وقبيلة العبيدات، وأخيرا قبيلة المقارحة، وقبيلة أولاد سليمان(11). وحتي قبيلة القذاذفة، التي ينتمي إليها القذافي، بدأت تشهد انشاقاقات واضحة، منها مثلا استقالة أحمد قذاف الدم(12). رفعت المظاهرات العلم الليبي المستخدم في الحقبة الملكية التي امتدت ما بين 1951 وحتي انقلاب القذافي في عام 1969 . ومن غير المتوقع أن يلعب الجيش الليبي دورا حاسما في الأحداث، حيث عاني طوال حكم الزعيم القذافي إهمالا، لخوف الأخير من قيامه بانقلابات، ولم يزوده إلا بأسلحة قديمة، ولم يقدم له الذخيرة اللازمة، وركز القذافي علي الميليشيات والقوات الخاصة التي تعرف بالكتائب، التي يقودها الموالون له .
لم تتركز الاحتجاجات الليبية في ساحة واحدة، أو حتي ساحات، ولكن الدولة ككل مثلت ساحة للكر والفر بين العقيد القذافي والثوار. فبعد تحرير بني غازي من قبل الثوار، تم تشكيل 'المجلس الوطني الانتقالي المؤقت' ليكون الممثل الشرعي للشعب الليبي وواجهة للثورة الشعبية المتواصلة. وسارع الثوار إلي السيطرة علي مناطق أخري في مدينة الزاوية ومدينة رأس لانوف النفطية ذات الأهمية الشديدة بسبب وجود العديد من آبار النفط بها.
وقد استخدم القذافي والميليشيات التابعة له الأسلحة الثقيلة، والقذف الجوي، والدبابات لمواجهة الثوار ولاستعادة المناطق التي تم تحريرها. كما لجأ القذافي إلي استجلاب مرتزقة من الدول الإفريقية المجاورة من أجل محاربة الثوار. وقد أدت المواجهات بين ميليشيات القذافي والقوي المناهضة له إلي سقوط آلاف القتلي والجرحي. وقد أدانت الدول الغربية والأمم المتحدة بشدة ما قام به القذافي تجاه المدنيين، وهو ما لم يحدث بالنسبة لأية دولة عربية أخري شهدت تظاهرات. بل والأكثر من ذلك أن المحكمة الجنائية الدولية أكدت أنها ستخضع الزعيم الليبي للتحقيق بسبب جرائم ارتكبتها قواته ،ومع اعتراف فرنسا بالمجلس الوطني الانتقالي المؤقت كممثل شرعي للشعب الليبي، وموافقة مجلس الأمن وقادة الغرب علي تطبيق الحظر الجوي علي ليبيا، بتأييد من جامعة الدول العربية، دخلت القضية الليبية منعطفا آخر. فهناك دعم من الغرب للثوار علي حساب القذافي. فانهيار نظام العقيد بات شبه مؤكد، ولكن لم تتضح بعد معالم النظام الذي سيحل محل نظام الجماهيرية الليبية الذي ابتدعه العقيد القذافي، وظل يحكم به البلاد لفترة طويلة.
وإذا ما صدقت تسمية "ثورة أيام الغضب" بصدد ما تشهده المنطقة العربية الآن، فهو يصدق على ثورة شعب ليبيا أكثر من سواه، حيث هيّج الاستبداد الشاذ فيها، على امتداد حياة جيل بأكمله وزيادة.. هيّج الغضب الشعبي، وزاده اشتعالا، يوما بعد يوم، ساعة بعد ساعة.. حتى بلغ درجة الانفجار الحتمي.
يمكن تعداد قائمة لا نهاية لها حول ما شهدتْه ليبيا من مظالم معيشية، واعتقالات وتعذيب، واغتيالات وقتل، وتشريد وحرمان، وانتهاك للكرامة الإنسانية ومختلف الحقوق والحريات، وتطاول أصاغر المنتفعين على كبار الأساتذة والعلماء.. ومن استهانةٍ لا تنقطع بإنسانية الإنسان.
جميع ذلك يراكم أسباب الثورة لدى كل شعب أبيّ، كما يراكمها الأسلوبُ المتبع في كثير من البلدان تحت حكم الاستبداد من تبجيلٍ للزعيم الفذ، والبطل الملهم، والحاكم "المعصوم".. إنّما واجه شعبُ ليبيا ما يزيد على جميع ذلك أضعافا مضاعفة، وما يفسّر الغضب الثائر الآن بعد أن تراكم طويلا..
ويكفي أن نستحضر ما يعنيه توظيفُ ما يُسمّى الكتاب الأخضر، كلمة كلمة، وجملة جملة، وبما نُشر من شروح ومتون عليه.. من أجل صكّ الآذان بذلك كله، دون انقطاع، على امتداد عشرات السنين، في المدارس والجامعات، والأحياء والمساجد، والخطب والمؤتمرات، والجرائد والإذاعات، ليصبح أشدّ وطأة من غازات خانقة للأنفاس ومسيلة للدموع.
وجميع ذلك من أجل تقديس فرد مستبد، لم يَملك مجدا موروثا ولا إنجازا مشهودا، وفق مقاييس المستبدين، فاصطنع لتقديس نفسه "هالة المفكّر المبدع عالميا".. وأيّ فكر ذاك وأي إبداع!
إنّ استيعاب ما تصنعه طاقة ثورة الشعب الآن لإسقاط صنم الاستبداد في ليبيا مهما بلغت التضحيات، مرتبط ارتباطا وثيقا باستيعاب ما صنعتْه نوعية علاقة المستبدّ بالشعب، والتي بدأت بطباعة "الكتاب الأخضر".. ومن يمسك به بين يديه يعجب للوهلة الأولى كيف استطاع مؤلفه أن يحشر "نظريته العالمية الثالثة" فيما يصعب وصفه بالكتاب أصلا –وهو في حدود 15 ألف كلمة.. أي بحجم مقال مطوّل من بضع صفحات في مجلة ما- فما الذي يحتويه إذن؟.
هل هو جملة من الحِكَم الفلسفية الفكرية التنظيرية البليغة إيجازا ومدلولا؟..
لا ينبغي أن يستهان باحتقان الغضب لمجرّد تحمّل التبجيل الممجوج المتواصل لأكثر من أربعين عاما، لفرد يرى أنّه يضع فكرا يغيّر به مجرى تاريخ الأمم جميعا، عندما "يكتشف" في كتابه الأخضر مثلا.. (ومعذرة للقارئ.. لا بدّ من إيراد أمثلة):
(المرأة أنثى لا غير.. وأنثى تعني أنها ذات طبيعة بيولوجية مختلفة عن الرجل لكونه رجلا).
أو عندما "يبدع" في صياغة هذه الحكمة المثيرة مثلا آخر:
(مثلما هو من غير المعقول أن تدخل الجماهير المعابد لتتفرج على شخص أو مجموعة تصلي دون أن تمارس هي الصلاة، يكون أيضا من غير المعقول أن تدخل الجماهير الملاعب والميادين لتتفرج على لاعب أو لاعبين دون أن تمارس هي الرياضة بنفسها)..
لا يستهان إذن إطلاقا بتراكم الغضب إلى درجة الانفجار، حتى ولو اقتصرت المعاناة في ليبيا على تحمّل ما يعنيه توظيف ذلك الجانب العبثي من الكتاب الأخضر ليصبح "برامج عبثية شاملة" لصناعة "إنسان ليبي" آخر بالإكراه!..
إنّما لا ينبغي أيضا التهوين من جانب الدهاء من وراء التنظير بغرض التسلّط، من خلال ما تعنيه الحملات الاستبدادية المحشوّة بالإجرام والفساد لتطبيق عبارات أصبحت معروفة: (لا ديمقراطية بدون مؤتمرات شعبية) و(شركاء لا أجراء) و(البيت لساكنه) وغيرها.
ولكن يظهر "دهاء التسلّط" دون قناع في تثبيت الاستبداد المطلق نظريا أيضا، وهو الذي أدّى الآن إلى الثورة.. فصاحب الكتاب الأخضر يطرح ويبتدع ما شاء له الخيال بشأن عصر الجماهيريات، ويعتبره البديل الأرقى والأفضل من الديمقراطيات المعاصرة.. ثم يختتم جميع ما كتب في "الشأن السياسي" بعبارة واحدة تقول:
(هذه هي الديمقراطية الحقيقية من الناحية النظرية. أما من الناحية الواقعية فإن الأقوياء دائما يحكمون.. أي أن الطرف الأقوى في المجتمع هو الذي يحكم).
ويعترف كاتب هذه السطور أنّه لم يقرأ كلاما أوفى تعبيرا من هذا الكلام في التنظير لشرعة الغاب، التي مارسها حاكم ليبيا المستبدّ لأكثر من أربعة عقود.
الاستبداد ملّة واحدة
مهما بلغ الأمر بدرجة دهاء الاستبداد في ليبيا، فهو لا يختلف عن سواه من حيث جوهر ما صنع إلى الآن، ومن حيث غباء الإجراءات المضادّة لثورة الشعب:
1- إرهاب الثائرين من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ.. عن طريق "المرتزقة.. البلطجية".. والبطشُ يزيد الثائرين صمودا وتصميما على مواصلة الثورة -مهما بلغ حجم التضحيات- وعدم النكوص إلى أوضاع تزيد وطأة الاستبداد الإجرامية فيه على ما كانت عليه، انتقاما وتنكيلا.
2- إغراء الثائرين من "المهمّشين" في معيشتهم وفي مدنهم وقراهم، جيلا بعد جيل، بوعود التنمية السخية والعمران غير المسبوق.. عن طريق أحد أفراد العائلة الراعية للاستبداد والفساد، كما لو أنّها تصدّق نفسها فعلا أنه يوجد من شعب ليبيا بعدُ من يمكن أن يصدّق وعودها.. فلا يزيد الشعبَ مزيدٌ من الوعود إلا مزيداً من التصميم على متابعة طريق الثورة المتنامية، والأمل أن يتسارع ما بدأ من انتشارٍ لشعلتها في غرب البلاد بعد أن عمّت وانتشرت في شرقها.
3- تصرّفات استعراضية عبثية، أصبح عنوانها في تونس معروفا: "فهمتُكم"، وفي مصر معروفا: "أعي ما تريدون".. وإذا بها تأخذ في "الجماهيرية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى" عنوان "التحام قائد الثورة مع الجماهير"، وجماهيرُه في "مظاهرته ضدّ الشعب" –هم كجماهير سواه من المستبدين- كلّ من يستطيع تعبئتهم من فئات المروِّضين والمروَّضين في الأجهزة القمعية، وبعض من لا تزال الأساليب الإرهابية تشدّ الوثاق عليهم.
الاستبداد ملّة واحدة.. وإن تفاوت ببعض ممارساته ودرجات إجرامه بين بلد وآخر، ورغم كثرة أصناف الحكم الاستبدادي على مرّ الحقب التاريخية فهو يتميّز في بعض البلدان العربية، -ومنها ليبيا- بدرجة من الإجرام المروّع لنشر الرعب قلّ نظيرها، فضلا عن عمل متواصل لتمزيق فئات الشعب الواحد، إلى أقلية يتمّ ترويض أفرادها على اقتناص الأرواح واغتيال الآمال وتقاسم الغنائم، وغالبية كبرى.. هي "الغنائم". من الأمثلة على ذلك: "الأجراء"، الذين لم يصبحوا شركاء في ثروات أرضهم، ولا في حصيلة عطاءات فكرهم وجهدهم، ولا عاشوا أجراء يحصلون على أجر نزيه لقاء ما يبذلون وينتجون، فأصبحت معاناتهم لمجرد البقاء على قيد الحياة، كرقيق العصور القديمة فقرا وبؤسا وقهرا.. في دولة من الدول الثرية بالنفط الخام، وهو في أرضهم هم!..
حتى أنصار الاستبداد والفساد داخل ليبيا يقرّون باساليب ملتوية بحقيقة أنّ اللجان الثورية والشعبية ولجان العنف الثوري اصبحت أدواتٍ للفساد والثراء الفاحش، ويطالبون الثائرين باللجوء إلى المؤتمرات الشعبية.. والثائرون يعلمون أنّها منذ نشأت أدواتٌ للاحتيال والقهر.
سقوط "الجماهيرية الاستبدادية"
لئن تضمن "عصر الجماهيريات" في ليبيا فارقا يستحق الذكر عن "عصر الاستبداد" الذي قوّضته ثورة الشعب في تونس غربا وثورة شعب مصر على الاستبداد شرقا، فهو الفارق في أنّ ارتكاب الكبائر في أساليب القمع كان أسرع ظهورا للعيان، وأفحش إجراما في إزهاق الأرواح، وأوسع نطاقا في العمل على تحويل ليبيا إلى سجن كبير لا يرى الناظر من خارج الحدود، إلا بصعوبة بالغة بعض ما يجري في الشوارع من استباحة رهيبة للدماء، يمكن تصوّر مداها من وراء القليل.. القليل الذي يشقّ طريقه رغم التعتيم، من مشاهد الثورة من جهة وانفلات الفتك الإجرامي من جهة أخرى.. وهو ما تبوح به ألسنة بعض المتحدثين عبر الهواتف الخلوية، أو الصور المتسرّبة عبر بقايا "اتصالات شبكية".. وجميع ذلك وسط الآلام ورغم المخاطر، فقد تكرّر اعتقال المتحدثين أو "اختفائهم" بعد سويعات من نقلِ ما يرونه بأمّ أعينهم، أو يتحدّثون عنه من أهدافٍ لا تتجاوز حدود "الكرامة والتحرر".
هذه الممارسات وسواها تؤكّد –إلى جانب ما تتميّز به ثورة الشعب في ليبيا- وجود ملامح واضحة مشتركة لها مع ثورات الشعوب العربية الأخرى، وسيضاف إليها: تحقيق نصر قريب.. ومن تلك الملامح:
انطلاقة الثورة انطلاقة شعبية عفوية كما كانت في تونس ومصر..
ومحور الثورة هو تقويض الاستبداد والفساد كما كانت في تونس ومصر..
ويجد الثائرون في ليبيا من تضامن الشعوب ونبضات القلوب ودعاء الألسنة والأفئدة مثل ما وجده الثائرون في تونس ومصر..
وانتصار هذه الثورة بهذه الملامح سيبدأ بإذن الله بتحقيق الهدف الأوّل مثلما كان مع ثورتي شعب تونس وشعب مصر: الشعب يريد إسقاط النظام.
ولن تكون ليبيا –مهما كانت حصيلة هذه الجولة.. أو هذه الثورة المتنامية- مثلما كانت قبل اندلاعها، ولن يكون للاستبداد والفساد مجال للاستقرار، فلا استقرار فوق دماء الشهداء والجرحى، ولن يمضي زمن طويل إلا ويضاف مبتدِع "الجماهيرية الاستبدادية" إلى حيث يرقد سواه من مشاهير الإبداع في الاستبداد، من فرعون والنمرود ونيرو قديما، ومبارك وبن علي.. ومن سيليهما حديثا، فصفحات التاريخ لا يكتبها هراءٌ عبثي أو دهاء تسلّطي، وإن طال بالمستبدين المقام، إنّما تكتب التاريخَ ثورات الأحرار وتضحيات الأحرار وقدرة الأحرار على تقويض دعائم الاستبداد والمستبدين والفساد والمفسدين، واقتلاعها من الجذور.
رابعا اليمن .. ثلاثون عاما من القمع :
لا يختلف حاكم اليمن من حيث أصل وجوده في الحكم طوال 33 سنة، وجوهر ممارساته خلالها، عمّن حكم في تونس 23 سنة وأسقطه شعب تونس، ومن حكم في مصر 30 سنة وأسقطه شعب مصر، ومن حكم في ليبيا 42 سنة ويوشك أن يسقطه شعب ليبيا رغم بطشه الهمجي، متحصناً وراء جُدُر باب العزيزية.
لم يتفوّق أحد من هؤلاء المستبدين على الآخر بالعدل، بل بدرجات الاستبداد، وكل استبداد جريمة بحق الحريات والحقوق الإنسانية، فهو مرفوض من حيث الأساس بمختلف المقاييس.
كما لم يتفوّق أحد من هؤلاء المستبدين بتحقيق أسباب المعيشة الكريمة لشعبه، بل بالفساد والمحسوبية ونهب الثروات وتقاسمها بين المسيطرين على السلطة بالقوة، وتكفي الإشارة في حالة اليمن حيث يبلغ العجز في الميزانية أكثر من 35 في المائة، إلى أنّ متوسط الدخل الفردي اسمياً يعادل أكثر من 1100 دولار سنوياً، أما على صعيد الواقع فيعيش أكثر من 40 في المائة من السكان تحت خط الفقر، منهم زهاء 17 في المائة من مجموع السكان بدخلٍ يومي دون دولار وربع الدولار للفرد الواحد، وهو ما يكشف عن تركيز دخل البلاد في أيدي الفئة المسيطرة من خلال الاستبداد والفساد.
كما يتفوّق المستبدون بعضهم على بعض من حيث ما يبتدعونه من أساليب التسلّط على مفاصل أجهزة السيطرة القمعية، واستخدامها على حساب كرامة الإنسان وحقوق الشعب وحرياته، وما عرف الشعب في بلد من هذه البلدان وحدة حقيقية بين فئاته وطوائفه وأحزابه وتجمّعاته وقبائله في ظلّ حكم استبدادي، ولا يمكن أن يعرف، إنّما تجلّت الوحدة الشعبية بأرقى صورها حيثما استطاعت الثورة أن تنتزع الشعب ممّا فرضه الاستبداد من انقسامات ونزاعات ومن تحريض فئة من الشعب على أخرى، ومن ترويض فريق يختارهم الاستبداد بمختلف أسباب الترويض «الحديثة» لممارسة الفتك والتنكيل.. ليكونوا «آذاناً» تتجسّس على أنفاس أبناء الشعب، و«قضباناً» لمن يريد الاستبداد سجنَهم من أحرار الشعب، و«رصاصاً» موجّهاً إلى صدور الثوار من أهل البلد الواحد.
إنّ ما يجمع اليمن وسواه من البلدان العربية التي يحكمها الاستبداد أمران اثنان ينطوي تحتهما ما سواهما، عنوان أوّلهما: استبداد مرفوض، وعنوان ثانيهما: ثورة شعبية مفروضة منتصرة، وجميع ما سوى ذلك تفاصيل لا ينبغي الاشتغال بها.
ليست القضية قضية «عدد الضحايا» من معتقلين ومنفيين ومن شهداء وجرحى، بل هي مسؤولية الحاكم المستبد ومن معه التي تجعل إسقاطه هدفاً مشروعاً.. ولو اقتصر العدد على ضحية واحدة، ولم يبلغ المئات أو الألوف كما هو الحال في اليمن.
وليست القضية قضية «عدد العاطلين من العمل» و«عدد الفقراء والمحرومين» و«حجم الثروات المنهوبة» و«حجم الطاقات المهدرة»، إنّما هي مسؤولية الحاكم عن نشر البطالة والفقر والحرمان ونهب الثروات وهدر الطاقات، وكلّ قسط صغير أو كبير من ذلك يجعل من إسقاطه مطلباً لا مندوحة عنه.. حتى ولو اقتصر ذلك على معاناة أسرة واحدة من الشعب نتيجة الظلم، وثراء فرد واحد ثراءً فاحشاً من أركان السلطة المستبدة نتيجة الفساد.
لقد صنع الحكم الاستبدادي في اليمن من أسباب الثورة عليه ما يحمّله المسؤولية عن كلّ قطرة دم تسيل، وكل أنّة ألمٍ تنطلق، وكلّ درهم يُنفق ظلماً وعدواناً على رصاصة تستقرّ في صدر إنسان.. من أهل اليمن.
وصل حاكم اليمن إلى السلطة في اليمن الشمالي عام 1978م، ثم كرئيس لليمن الموحد عام 1990م، فقضى بذلك زهاء نصف عمره (70 سنة) على كرسي السلطة، وفوق أمواج لا تنقطع من النزاعات وإراقة الدماء. بدأ عهده إثر اغتيالاتٍ في اليمن الشمالي أودت خلال شهور معدودة بحياة الرئيس السابق إبراهيم الحمدي، ثم الرئيس السابق أحمد الغشمي.. ودخل المرحلة الثانية من ممارسة السلطة عبر توحيد شطري اليمن، وكان في أعقاب سلسلة نزاعات مسلحة في الجنوب، بينما حفلت السنوات الأربع الأولى من الوحدة في عهد حاكم اليمن الحالي بتوترات ونزاعات متتابعة، أفضت إلى حرب 1994م، ثمّ لم تنقطع بعدها الضغوط والضغوط المضادة، بين الشمال والجنوب، كما لم تنقطع جهود تفصيل الدستور، وتمرير الانتخابات الصورية كانتخابات عام 1999م ثم انتخابات 2006م، لترسيخ الاستبداد الفردي والحزبي، ولم تنقطع في عهد الحاكم، وكان منها ما عُرف بتمرّد الحوثيين منذ عام 2004م.
33 سنة.. من حكم الفرد وأقاربه وحزبه في اليمن، لماذا؟.
لو كان أعدل حاكم عرفه التاريخ، وأقدر حاكم على تحقيق ما يحمل الحاكم المسؤولية عن تحقيقه من أمن وسلام ووحدة، ومعيشة كريمة وتقدّم ونهوض.. وسوى ذلك من أهداف شعبية مشروعة، فمن المفروض أن يؤدّي الحاكم قسطاً من الإسهام في مسيرة اليمن وشعب اليمن نحو هذه الأهداف، ويتنحّى ليساهم سواه في متابعة المسيرة، لا أن يجعل من نفسه سجّاناً ومن البلد سجناً ومن أهله إماءً وعبيداً.
نهاية الاستبداد واحدة
لم يقتصر الأمر على عجز حاكم اليمن عن تحقيق ما يُفترض بالحاكم أن يحققه إذا كان على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقه، وعلى قدر من الكفاءة التي تسوّغ وجوده في الحكم أصلاً.. بل كان بسياساته وممارساته من وراء نشر المظالم لا العدالة، والمخاوف لا الأمن، والحروب والنزاعات بدلا ًمن السلام والوحدة، ومن وراء انتشار انتهاكات الحريات والحقوق وتعميم الفقر والحرمان، وترسيخ التخلّف بجميع مظاهره.
إنّ القتل العلني للمتظاهرين على أبواب الجامعات والمساجد، وفي الشوارع والميادين، في المدن الشمالية والجنوبية.. هو الامتداد المحتم لممارسات الاستبداد منذ سنين وسنين عبر الاعتقالات والبطش بالخصوم، واصطناع مواد دستورية وتشريعات قانونية لا تقوم على أسس تشريعية قويمة، ولا تستند إلا إلى التسلّط على مؤسسات الدولة.
ولو اقتصر الأمر فقط على توزيع مقاليد السلطة المغتصبة والثروات المنهوبة، على أفراد عائلة الحاكم المستبدّ وأعوانه، لكفى بذلك سبباً للثورة الشعبية عليه، والمطالبة بسقوطه مع عائلته وأعوانه والمنتفعين من تسلّطه.. ولقد أصبح سقوطه وشيكاً، ليلحق بمن سبقه، ويسبق من سيلحق به.
خاتمة تاريخ الثورات في مصر :
أولها ثورة عرفتها البشرية هي الثورة على الملك بيبي الثاني قبل حوالي 45 قرن في أواخر الأسرة الفرعونية السادسة التي كان يسيطر عليها الملك الضعيف بيبي الثاني، الذي اعتلى العرش وعمره ست سنوات حيث كانت أمه وصية عليه في البداية واستمر حكمه لمدة 94 عاما.
وقد عرفت مصر في عهده وقبل وبعد ذلك مائتي سنة أو أكثر من الظلم والفساد والحروب القبلية، حيث كان حكام المدن في حالة صراع، والقبائل البدوية تغزو البلاد من الشرق والغرب. وكان لطول مدة حكمه أثره في ضعف الأسرة المالكة، فبسبب كبر سنه أصبح غير قادر على فرض طاعة حكام الأقاليم الذين زادت سلطتهم ولم يدينوا بالولاء للملك وامتنعوا عن دفع الجزية حيث استقلو بأقاليمهم واستبدوا بالاهالي، وفرضوا المكوس الجائرة، ونهبوا الأقوات، وأهملوا إصلاح الري والأرض، وظهرت الفوضى وعدم الأمن وأهملت القوانين وزاد السلب والنهب.
واباح لهم الكهنة بفتاواهم الكاذبة كل منكر، حرصا على أوقافهم، فكلما قصدهم مظلوم طالبوه بالطاعة والصبر ووعدوه بحسن الجزاء في العالم الأخر! وبلغ اليأس غايته، فلا حاكم يعدل، ولا قانون يسود، فانطلقت الثورة ومحاربة الظلم، وسرعان ما استجاب القوم إلى النداء، فحطموا حاجز الخوف، ووجهوا ضربتهم القاتلة الى الطغاة والظالمين.
أما في العصر الحديث فهناك الثورة العرابية وهي الثورة التي قادها أحمد عرابي في فترة 18791882 ضد الخديوي و التأثير الأوربي و سميت آنذاك هوجة عرابي. وإندلعت تلك الثورة إثر قرار طرد الضباط المصريين من الجيش المصري. ولكن في النهاية فشلت هذه الثورة حيث احتجز أحمد عرابي في ثكنات العباسية مع نائبه طلبة باشا حتى انعقدت محاكمته في 3 ديسمبر 1882 والتي قضت بإعدامه. تم تخفيف الحكم بعد ذلك مباشرة بناءا على اتفاق مسبق بين سلطة الاحتلال البريطاني والقضاة المصريين إلى النفي مدى الحياة إلى سرنديب أو ما يسمى سيلان حاليا.
ثم حدثت ثورة 1919 وهي ثورة بقيادة سعد زغلول زعيم الحركة الوطنية المصرية. جاءت هذه الثورة في ظل المعاملة القاسية من قبل البريطانيين بحق المصريين، والأحكام العرفية التي أصدرت بحق المصريين بالإضافة إلى رغبة المصرين بالحصول على الاستقلال. أتت هذه الثورة نتيجة مطالبة سعد زغلول بالسماح للوفد المصري بالمشاركه في مؤتمر الصلح في باريس، وعندما رفضت بريطانيا هذه المشاركة واصرار سعد زغلول عليها اضطرت إلى نفيه هو ومحمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقى إلى مالطة، فانفجرت الثوره في كل مكان في مصر واشتركت فيها المصريين. وكانت أول ثورة تشترك فيها النساء في مصر، بقيادة صفية زغلول مطالبين بالإفراج عن سعد زغلول، فاضطرت السلطات البريطانية إلى الرضوخ للمطلب الشعبي وأفرجت عن سعد زغلول. هذه الثورة أعطت للبريطانيين الضوء الأحمر والتي جعلت البريطانين يقومون بإلغاء الأحكام العرفية، ووعد المصريين بالحصول على الاستقلال بعد ثلاث سنوات مقابل إبقاء قوات بريطانية في مصر.
ثورة يوليو بدأت بانقلاب عسكري قام به ضباط جيش مصريون ضد الحكم الملكي في 23 يوليو 1952 وعرف في البداية بالحركة المباركة ثم أطلق عليها البعض فيما بعد لفظ ثورة 23 يوليو. بعد حرب 1948 وضياع فلسطين ظهر تنظيم الضباط الأحرار في الجيش المصري بزعامة اللواء محمد نجيب وفي 23 يوليو 1952 قام التنظيم بانقلاب مسلح نجح في السيطرة على الأمور والسيطرة على المرافق الحيوية في البلاد وأذاع البيان الأول للثورة بصوت أنور السادات وأجبرت الحركة على الملك التنازل عن العرش لولي عهده الأمير أحمد فؤاد ومغادرة البلاد في 26 يوليو 1952.
وشكل مجلس وصاية على العرش ولكن إدارة الأمور كانت في يد مجلس قيادة الثورة المشكل من 13 ضابط برئاسة محمد نجيب كانوا هم قيادة تنظيم الضباط الأحرار ثم ألغيت الملكية وأعلنت الجمهورية في 18 يونيو 1953. قامت الثورة على مبادئ ستة كانت هي عماد سياسة الثورة وهي
إنجازات ثورة يوليو محليا وعربيا :
أ-الانجازات السياسية
تاميم قناة السويس
استرداد الكرامة والاستقلال والحرية المفقودة على ايدي المستعمر المعتدي
السيطرة على الحكم في مصر وسقوط الحكم الملكي
اجبار الملك على التنازل عن العرش ثم الرحيل عن مصر إلى إيطاليا
الغاء النظام الملكي وقيام الجمهورية
توقيع اتفاقية الجلاء بعد أكثر من سبعين عاما من الاحتلال
بناء حركة قومية عربية للعمل على تحرير فلسطين
ب-انجازات ثقافية
انشات الثورة الهيئة العامة لقصور الثقافة وقصور الثقافة والمراكز الثقافية لتحقيق توزيع ديموقراطي للثقافة وتعويض مناطق طال حرمانها من ثمرات الابداع الذي احتكرته مدينة القاهرة وهو ما يعد من أهم وابرز انجازاتها الثقافية
إنشاء اكاديمية تضم المعاهد العليا للمسرح والسينما والنقد والباليه والاوبرا والموسيقى والفنون الشعبية
رعاية الاثار والمتاحف ودعم المؤسسات الثقافية التي انشاها النظام السابق ثقافي
سمحت بإنتاج افلام من قصص الادب المصري الاصيل بعد أن كانت تعتمد على الاقتباس من القصص والافلام الاجنبية
ج-انجازات تعليمية
قررت مجانية التعليم العام واضافت مجانية التعليم العالي
ضاعفت من ميزانية التعليم العالي
اضافت عشرة جامعات انشئت في جميع أنحاء البلاد بدلا من ثلاث جامعات فقط
إنشاء مراكز البحث العلمي وتطوير المستشفيات التعليمية
د-انجازات اقتصادية واجتماعية
تعتبر الثورة العصر الذهبي للطبقة العاملة المطحونة الذين عانوا اشد المعاناة من الظلم وفقدان مبدا العدالة الاجتماعية
اسفرت الثورة عن توجهها الاجتماعي وحسها الشعبي مبكرا عندما اصدرت قانون الملكية يوم 9 سبتمبر 1952
قضت على الاقطاع وانزلت الملكيات الزراعية من عرشها
مصرت واممت التجارة والصناعة التي استاثر بها الاجانب
الغاء الطبقات بين الشعب المصري وأصبح الفقراء قضاة واساتذة جامعة وسفراء ووزراء واطباء ومحامين وتغيرت البنية الاجتماعية للمجتمع المصري
قضت على معاملة العمال كسلع تباع وتشترى ويخضع ثمنها للمضاربة في سوق العمل
حررت الفلاح باصدار قانون الإصلاح الزراعي
قضت على السيطرة الراسمالية في مجالات الإنتاج الزراعي والصناعي
توحيد الجهود العربية وحشد الطاقات العربية لصالح حركات التحرر العربية اكدت للامة من الخليج إلى المحيط ان قوة العرب في توحدهم وتحكمها اسس اولها تاريخي وثانيها اللغة المشتركة لعقلية جماعية وثالثها نفسي واجتماعي لوجدان واحد مشترك اقامت الثورة تجربة عربية في الوحدة بين مصر وسوريا في فبراير 1958 قامت الثورة بعقد اتفاق ثلاثي بين مصر والسعودية وسوريا ثم انضمام اليمن الدفاع عن حق الصومال في تقرير مصيره ساهمت الثورة في استقلال الكويت قامت الثورة بدعم الثورة العراقية أصبحت مصر قطب القوة في العالم العربي مما فرض عليها مسئولية والحماية والدفاع لنفسها ولمن حولها ساعدت مصر اليمن الجنوبي في ثورته ضد المحتل حتى النصر واعلان الجمهورية ساندت الثورة الشعب الليبي في ثورته ضد الاحتلال دعمت الثورة حركة التحرر في تونس والمغرب حتى الاستقلال
لا يمكن الحديث عن تاريخ الثورات في العالم العربي دون التعرض لما يجري علي أرض الواقع من ثورات عربية ، جاءت بعد طول جمود ، وحركت بركة المياه الراكدة في أرجاء الأقطار العربية ، ولا شك أن إرهاصات ومقدمات هذا الحراك الثوري الشعبي العارم يعود إلي سنوات مضت ، تراكم فيها مخزن الغضب الناتج عن القمع السياسي والتهميش الاجتماعي ، والتفاوت الفاحش في مستوي المعيشة بين طبقة الحاكمة وأتباعها ، وبين جموع الشعوب التي تعاني الفقر والحرمان .
ولعل أحد أهم الأسباب التي أدت إلي اندلاع الثورات العربية التي نشهدها حاليا ، هو اتساع الفجوة الحضارية والمعرفية بين السلطات الحاكمة التي تستخدم أدوات وآليات تنتمي لحقب سابقة ، وبين أجيال جديدة تختلف في نمط التفكير واستخدام وسائل الاتصال الحديثة ، وتخلف حتي في لغة التخاطب وطريقة ارتداء الملابس ، فبدت السلطات والأنظمة الحاكمة وكأنها تحكم في الألفية الثالثة بأدوات وآليات ونمط تفكير حقبة الستينيات في القرن الماضي .
وإذا علمنا أن الشباب (الفئة العمرية بين 15 و29 سنة) يشكل أكثر من ثلث سكان العالم العربي بما يعرف بالطفرة الشبابية. وتعاني تلك الفئة أشكالا متعددة من الإقصاء والتمييز جعلتها ساخطة علي الأوضاع الراهنة. وبالرغم من الثروات البشرية والطبيعية الهائلة التي تتمتع بها المنطقة العربية، فإنها شهدت في العقود الأخيرة خللا كبيرا في منظومة توزيع الثروة، حيث استأثرت نخب ضيقة ذات ارتباط وثيق بالسلطة بمقومات الثروة، بينما همشت قطاعات واسعة من المجتمعات العربية. وقد تزايدت تلك الظاهرة في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، مع التوجه لتبني آليات السوق والتجارة الحرة، وتراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة. كما تعاني المنطقة العربية القمع، والاستبداد، وغياب الحقوق والحريات، وانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، مع تركيز السلطة في يد نخب ضيقة مرتبطة بالحزب أو الأسرة الحاكمة ، فمن هنا يمكن أن ندرك حجم الهوة بين النظم القائمة وبين الشعوب .
ويعاني الشباب أيضا تدني مستويات الأجور، وسوء ظروف العمل، حيث يعمل نحو 72% من الشباب في القطاع غير الرسمي. وقد أثر كل ذلك بالسلب في الظروف الاجتماعية للشباب في الوطن العربي، حيث تفشت ظاهرة العنوسة، وتأخر سن الزواج بشكل كبير. ووفقا للتقارير الدولية، فإن أكثر من 50% من الذكور في المرحلة العمرية من 25 إلي 29 لم يسبق لهم الزواج، وهي النسبة الأعلي بين الدول النامية. ومن ناحية أخري، يعاني الشباب في العالم العربي إقصاء سياسيا واضحا، حيث أدي غياب الحريات السياسية والمدنية، وضعف الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان إلي انصراف الشباب عن المشاركة السياسية من خلال القنوات الشرعية.
وبالرغم من الثروات البشرية والمادية الهائلة التي تتمتع بها دول المنطقة، فإن النظم العربية أخفقت في تحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. لا تزال قطاعات واسعة من الشعوب العربية تعاني الأمية، والبطالة، وتدني مستويات الدخل، وغياب الخدمات والمرافق، كما أن الفجوة بين الطبقات والمناطق في الدولة الواحدة في اتساع مستمر. وقد أدي تفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية، وتفشي الفساد بشكل واسع، واستئثار نخب ضيقة مرتبطة بالسلطة بعوائد التنمية إلي تزايد حالة السخط السياسي والاجتماعي، وظهور حركات احتجاجية علي نطاق واسع في العديد من الدول العربية. ومع اتجاه عدد من الدول العربية إلي تبني سياسات التحرير الاقتصادي واقتصاد السوق في السنوات الأخيرة، تراجع الدور الاقتصادي والاجتماعي للدول العربية بشكل ملحوظ، مما أثر بالسلب في قطاعات واسعة كانت تعتمد بشكل كبير علي دعم الدولة. وقد تزايدت بالتالي مظاهر الفقر والتهميش، واتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء بشكل ملحوظ، وشهدت عدة دول عربية تصاعدا في وتيرة الاحتجاجات العمالية والفئوية المطالبة برفع الأجور، ومحاربة الفساد، والغلاء، وتحسين الظروف المعيشية للعمال.
ويشير الدكتور جلال أمين المفكر الاقتصادي المعروف أنه 'في (تونس وليبيا)، حدث تحسن في المؤشرات التي يعلق عليها الصندوق (النقد الدولي) أهمية، ويقيس بها النجاح والفشل، بينما حدث تدهور في المؤشرات التي يتجنب الصندوق الكلام عنها، ولا يعيرها اهتماما في توزيع عبارات الثناء أو النقد: معدل نمو الناتج القومي يرتفع، ومعه متوسط الدخل، والاستثمارات الأجنبية تزيد. (حدث هذا في تونس في العشرين سنة الماضية، وبدأ يحدث في مصر منذ ست سنوات). ولكن حدث التدهور الشديد في ثلاثة أمور لا يحب الصندوق أو المؤسسات المإلية الدولية الحديث عنها إلا مضطرة وهي: زيادة البطالة، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وزيادة انكشاف الاقتصاد أمام المتغيرات العالمية، ومن ثم زيادة تأثره بما يحدث في الخارج من تقلبات. كانت النتيجة أن تونس، بعد أكثر من عشرين عاما من تطبيق سياسة الصندوق، زاد الناتج القومي فيها بمعدل يفوق 5% سنويا (أي أكثر بنحوالخمس مما حدث في مصر)، ولكن زاد أيضا معدل البطالة بشدة، فأصبح أكبر من معدل البطالة في مصر بنحو 50% (14% من إجمإلي القوة العاملة بالمقارنة ب- 9% في مصر، طبقا للإحصاءات الرسمية التي يرجح أنها أقل بكثير من الحقيقة في الدولتين). كذلك، اتسعت بشدة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فأصبحت أكبر بكثير منها في مصر (أغني 10% من السكان في مصر يحصلون علي 8 أضعاف ما يحصل عليه أفقر 10% من السكان، بالمقارنة ب- 13 ضعفا في تونس)، طبقا لإحصاءات الأمم المتحدة عن سنة 2007/2008. والأرجح أن الحقيقة أسوأ هنا أيضا بكثير، إذ إن كثيرا مما يحصل عليه الأغنياء لا يري ولا يحسب'
ومن الملاحظ أن معدلات التنمية البشرية -طبقا لتقرير الأمم المتحدة الإنمائي- لا تعكس الواقع في عدد من الدول العربية. فالجماهيرية الليبية تأتي في الموقع 53، وهذا يمثل مستوي مرتفعا في التنمية البشرية. أما تونس، فتقع في الموقع 81، ومصر في الموقع 101.
أولاً تونس .. الشرارة :
يوم الجمعة 17 ديسمبر من عام 2010 قام شاب تونسي يُدعى محمد البوعزيزي وهو من حاملي الشهادات الجامعية العاطلين عن العمل بإضرام النار في نفسه احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية في مدينة سيدي بو زيد لعربة يبيع عليها الفاكهة والخضار، وللتنديد برفض سلطات المحافظة قبول شكوى أراد تقديمها في حق الشرطية فادية حمدي التي قامت بصفعه أمام الملأ. وأدى ذلك إلى اندلاع مواجهات بين مئات من الشبان في منطقة سيدي بوزيد وولاية القصرين مع قوات الأمن يوم السبت 18 ديسمبر 2010 خلال مظاهرة للتضامن مع البوعزيزي والاحتجاج على ارتفاع نسبة البطالة والتهميش والإقصاء في هذه الولاية الداخلية، وانتهت الاحتجاجات باعتقال عشرات الشبان وتحطيم بعض المنشآت العامة. وتوسعت دائرة الاحتجاجات بولاية سيدي بوزيد لتنتقل الحركة الاحتجاجية من مركز الولاية إلى البلدات والمدن المجاورة كالمكناسي والرقاب وسيدي علي بن عون ومنزل بوزيان، حيث خرج السكان في مسيرات حاشدة للمطالبة بالعمل وحقوق المواطنة والمساواة في الفرص والتنمية، وقد تطورت الأحداث بشكل متسارع وارتقت الاحتجاجات لتأخذ طابع سياسي ومطالبة الشعب بتنحي الرئيس بن علي عن منصبه وبالحريات ومحاسبة العابثين بالأموال العامة والتحقيق بقضايا الفساد
يوم الجمعة 10 صفر 1432 هـ الموافق 14 يناير 2011 أجبرت الانتفاضة الشعبية الرئيس زين العابدين بن علي الذي كان يحكم البلاد بقبضةٍ حديدية طيلة 23 سنة على مغادرة البلاد بشكل مفاجئ إلى السعودية، حيث وصلت طائرته إلى جدة بالسعودية. وقد رحب الديوان الملكي السعودي بقدومه وأسرته إلى الأراضي السعودية، وجاء في بيان للديوان الملكي السعودي نشرته وكالة الأنباء السعودية أنه "انطلاقًا من تقدير حكومة المملكة العربية السعودية للظروف الاستثنائية التي يمر بها الشعب التونسي الشقيق وتمنياتها بأن يسود الأمن والاستقرار في هذا الوطن العزيز على الأمتين العربية والإسلامية جمعاء وتأييدها لكل إجراء يعود بالخير للشعب التونسي الشقيق فقد رحبت حكومة المملكة العربية السعودية بقدوم فخامة الرئيس زين العابدين بن علي وأسرته إلى المملكة. وأن حكومة المملكة العربية السعودية إذ تعلن وقوفها التام إلى جانب الشعب التونسي الشقيق لتأمل ـ بإذن الله ـ في تكاتف كافة أبنائه لتجاوز هذه المرحلة الصعبة من تاريخه
ثانيا الثورة المصرية وأصدائها في العالم العربي :
بينما ركزت وسائل الإعلام عدستها على ميدان التحرير لرصد الاحتفالات المصرية بانتصار الثورة السلمية والإطاحة بنظام حكم الرئيس المصري حسني مبارك، كانت الاحتفالات تعم العالم العربي بأكمله من رام الله إلى عمان الى اليمن وغيرها. فالعديد من العرب رأى بنظام مبارك كجدار برلين الذي تلا سقوطه تحولا كاملا في اوروبا، فلمصر أكبر دولة عربية تأثير واسع في الشرق الأوسط وفي حال تحولها إلى الديمقراطية فان ذلك كان له اثر ملموس في جميع الدول العربية. وربما يكون ذلك سبب انشغال العديد من الزعماء العرب طيلة أيام الثورة المصرية بالضغط على أمريكا وأوروبا من أجل دعم مبارك ضد إرادة الشعب المصري.
ومن الناحية المعنوية فان الثورة المصرية أثبتت بان استراتيجية المقاومة السلمية تستطيع الانتصار على السلطات مهما كان عتادها ونوع سلاحها وقوة قمعها. "سلمية سلمية" كان احد هتافات المتظاهرين المصريين على مدى ثمانية عشر يوما وبالفعل كان أهم ما ميز الثورة المصرية ضد النظام هو امكانيتها في البقاء سلمية الى حد كبير بالرغم من الاستفزاز المستمر من النظام المصري الذي احتاج الى تحول المتظاهرين نحو العنف ليبرر قمعهم.
إن حركة المقاومة السلمية في مصر استطاعت جلب انتباه العالم بأكمله واستمالة تأييد شعوب العالم رغما عن قياداتها واستطاعت الانتصار حتى في الوقت الذي وقف فيه قادة العالم قلبا وقالبا إلى جانب النظام المصري. إن انتصار الثورة السلمية في مصر هو دليل لكل من يشك في إمكانية انتصار الحركة السلمية ضد الاحتلال في فلسطين، إن الثورات السلمية هي أصعب أشكال النضال ضد الاستبداد، فالمصريون لم يكونو سلميين دون دفع ثمن غال للخيار السلمي. فقد ضحوا بمئات الشهداء وآلاف المصابين . ولكنه كان الخيار الأصح استراتيجيا ومن ناحية المبدأ.
ثالثا ليبيا .. الشعب يواجه المجزرة:
بدأت الاحتجاجات الليبية بدعوة عدد من الشباب ليوم غضب يوافق السابع عشر من فبراير 2011 (10). وأعلن المؤتمر الوطني للمعارضة الليبية وناشطون ليبيون انضمامهم ليوم الغضب الليبي، كما أيد الدعوة أيضا المعارضون الليبيون في المنفي. ثم ساند عدد من القبائل تلك التظاهرات. وسوف يكون دور القبائل في ليبيا محوريا في حسم الصراع الدامي الدائر هناك، حيث تزداد أهمية دور القبائل بسبب عدم وجود جيش قوي. ومن ضمن القبائل التي انضمت إلي الاحتجاجات: قبيلة ورفلة (وقد انضمت إلي الاحتجاجات يوم 20 فبراير 2011 وهي أكبر قبائل ليبيا)، وقبيلة ترهونة، وقبيلة الزوية في جنوب ليبيا في المناطق النفطية، وقبائل الطوارق في الجنوب، وقبيلة الزنتان، وقبيلة بني وليد، وقبيلة العبيدات، وأخيرا قبيلة المقارحة، وقبيلة أولاد سليمان(11). وحتي قبيلة القذاذفة، التي ينتمي إليها القذافي، بدأت تشهد انشاقاقات واضحة، منها مثلا استقالة أحمد قذاف الدم(12). رفعت المظاهرات العلم الليبي المستخدم في الحقبة الملكية التي امتدت ما بين 1951 وحتي انقلاب القذافي في عام 1969 . ومن غير المتوقع أن يلعب الجيش الليبي دورا حاسما في الأحداث، حيث عاني طوال حكم الزعيم القذافي إهمالا، لخوف الأخير من قيامه بانقلابات، ولم يزوده إلا بأسلحة قديمة، ولم يقدم له الذخيرة اللازمة، وركز القذافي علي الميليشيات والقوات الخاصة التي تعرف بالكتائب، التي يقودها الموالون له .
لم تتركز الاحتجاجات الليبية في ساحة واحدة، أو حتي ساحات، ولكن الدولة ككل مثلت ساحة للكر والفر بين العقيد القذافي والثوار. فبعد تحرير بني غازي من قبل الثوار، تم تشكيل 'المجلس الوطني الانتقالي المؤقت' ليكون الممثل الشرعي للشعب الليبي وواجهة للثورة الشعبية المتواصلة. وسارع الثوار إلي السيطرة علي مناطق أخري في مدينة الزاوية ومدينة رأس لانوف النفطية ذات الأهمية الشديدة بسبب وجود العديد من آبار النفط بها.
وقد استخدم القذافي والميليشيات التابعة له الأسلحة الثقيلة، والقذف الجوي، والدبابات لمواجهة الثوار ولاستعادة المناطق التي تم تحريرها. كما لجأ القذافي إلي استجلاب مرتزقة من الدول الإفريقية المجاورة من أجل محاربة الثوار. وقد أدت المواجهات بين ميليشيات القذافي والقوي المناهضة له إلي سقوط آلاف القتلي والجرحي. وقد أدانت الدول الغربية والأمم المتحدة بشدة ما قام به القذافي تجاه المدنيين، وهو ما لم يحدث بالنسبة لأية دولة عربية أخري شهدت تظاهرات. بل والأكثر من ذلك أن المحكمة الجنائية الدولية أكدت أنها ستخضع الزعيم الليبي للتحقيق بسبب جرائم ارتكبتها قواته ،ومع اعتراف فرنسا بالمجلس الوطني الانتقالي المؤقت كممثل شرعي للشعب الليبي، وموافقة مجلس الأمن وقادة الغرب علي تطبيق الحظر الجوي علي ليبيا، بتأييد من جامعة الدول العربية، دخلت القضية الليبية منعطفا آخر. فهناك دعم من الغرب للثوار علي حساب القذافي. فانهيار نظام العقيد بات شبه مؤكد، ولكن لم تتضح بعد معالم النظام الذي سيحل محل نظام الجماهيرية الليبية الذي ابتدعه العقيد القذافي، وظل يحكم به البلاد لفترة طويلة.
وإذا ما صدقت تسمية "ثورة أيام الغضب" بصدد ما تشهده المنطقة العربية الآن، فهو يصدق على ثورة شعب ليبيا أكثر من سواه، حيث هيّج الاستبداد الشاذ فيها، على امتداد حياة جيل بأكمله وزيادة.. هيّج الغضب الشعبي، وزاده اشتعالا، يوما بعد يوم، ساعة بعد ساعة.. حتى بلغ درجة الانفجار الحتمي.
يمكن تعداد قائمة لا نهاية لها حول ما شهدتْه ليبيا من مظالم معيشية، واعتقالات وتعذيب، واغتيالات وقتل، وتشريد وحرمان، وانتهاك للكرامة الإنسانية ومختلف الحقوق والحريات، وتطاول أصاغر المنتفعين على كبار الأساتذة والعلماء.. ومن استهانةٍ لا تنقطع بإنسانية الإنسان.
جميع ذلك يراكم أسباب الثورة لدى كل شعب أبيّ، كما يراكمها الأسلوبُ المتبع في كثير من البلدان تحت حكم الاستبداد من تبجيلٍ للزعيم الفذ، والبطل الملهم، والحاكم "المعصوم".. إنّما واجه شعبُ ليبيا ما يزيد على جميع ذلك أضعافا مضاعفة، وما يفسّر الغضب الثائر الآن بعد أن تراكم طويلا..
ويكفي أن نستحضر ما يعنيه توظيفُ ما يُسمّى الكتاب الأخضر، كلمة كلمة، وجملة جملة، وبما نُشر من شروح ومتون عليه.. من أجل صكّ الآذان بذلك كله، دون انقطاع، على امتداد عشرات السنين، في المدارس والجامعات، والأحياء والمساجد، والخطب والمؤتمرات، والجرائد والإذاعات، ليصبح أشدّ وطأة من غازات خانقة للأنفاس ومسيلة للدموع.
وجميع ذلك من أجل تقديس فرد مستبد، لم يَملك مجدا موروثا ولا إنجازا مشهودا، وفق مقاييس المستبدين، فاصطنع لتقديس نفسه "هالة المفكّر المبدع عالميا".. وأيّ فكر ذاك وأي إبداع!
إنّ استيعاب ما تصنعه طاقة ثورة الشعب الآن لإسقاط صنم الاستبداد في ليبيا مهما بلغت التضحيات، مرتبط ارتباطا وثيقا باستيعاب ما صنعتْه نوعية علاقة المستبدّ بالشعب، والتي بدأت بطباعة "الكتاب الأخضر".. ومن يمسك به بين يديه يعجب للوهلة الأولى كيف استطاع مؤلفه أن يحشر "نظريته العالمية الثالثة" فيما يصعب وصفه بالكتاب أصلا –وهو في حدود 15 ألف كلمة.. أي بحجم مقال مطوّل من بضع صفحات في مجلة ما- فما الذي يحتويه إذن؟.
هل هو جملة من الحِكَم الفلسفية الفكرية التنظيرية البليغة إيجازا ومدلولا؟..
لا ينبغي أن يستهان باحتقان الغضب لمجرّد تحمّل التبجيل الممجوج المتواصل لأكثر من أربعين عاما، لفرد يرى أنّه يضع فكرا يغيّر به مجرى تاريخ الأمم جميعا، عندما "يكتشف" في كتابه الأخضر مثلا.. (ومعذرة للقارئ.. لا بدّ من إيراد أمثلة):
(المرأة أنثى لا غير.. وأنثى تعني أنها ذات طبيعة بيولوجية مختلفة عن الرجل لكونه رجلا).
أو عندما "يبدع" في صياغة هذه الحكمة المثيرة مثلا آخر:
(مثلما هو من غير المعقول أن تدخل الجماهير المعابد لتتفرج على شخص أو مجموعة تصلي دون أن تمارس هي الصلاة، يكون أيضا من غير المعقول أن تدخل الجماهير الملاعب والميادين لتتفرج على لاعب أو لاعبين دون أن تمارس هي الرياضة بنفسها)..
لا يستهان إذن إطلاقا بتراكم الغضب إلى درجة الانفجار، حتى ولو اقتصرت المعاناة في ليبيا على تحمّل ما يعنيه توظيف ذلك الجانب العبثي من الكتاب الأخضر ليصبح "برامج عبثية شاملة" لصناعة "إنسان ليبي" آخر بالإكراه!..
إنّما لا ينبغي أيضا التهوين من جانب الدهاء من وراء التنظير بغرض التسلّط، من خلال ما تعنيه الحملات الاستبدادية المحشوّة بالإجرام والفساد لتطبيق عبارات أصبحت معروفة: (لا ديمقراطية بدون مؤتمرات شعبية) و(شركاء لا أجراء) و(البيت لساكنه) وغيرها.
ولكن يظهر "دهاء التسلّط" دون قناع في تثبيت الاستبداد المطلق نظريا أيضا، وهو الذي أدّى الآن إلى الثورة.. فصاحب الكتاب الأخضر يطرح ويبتدع ما شاء له الخيال بشأن عصر الجماهيريات، ويعتبره البديل الأرقى والأفضل من الديمقراطيات المعاصرة.. ثم يختتم جميع ما كتب في "الشأن السياسي" بعبارة واحدة تقول:
(هذه هي الديمقراطية الحقيقية من الناحية النظرية. أما من الناحية الواقعية فإن الأقوياء دائما يحكمون.. أي أن الطرف الأقوى في المجتمع هو الذي يحكم).
ويعترف كاتب هذه السطور أنّه لم يقرأ كلاما أوفى تعبيرا من هذا الكلام في التنظير لشرعة الغاب، التي مارسها حاكم ليبيا المستبدّ لأكثر من أربعة عقود.
الاستبداد ملّة واحدة
مهما بلغ الأمر بدرجة دهاء الاستبداد في ليبيا، فهو لا يختلف عن سواه من حيث جوهر ما صنع إلى الآن، ومن حيث غباء الإجراءات المضادّة لثورة الشعب:
1- إرهاب الثائرين من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ.. عن طريق "المرتزقة.. البلطجية".. والبطشُ يزيد الثائرين صمودا وتصميما على مواصلة الثورة -مهما بلغ حجم التضحيات- وعدم النكوص إلى أوضاع تزيد وطأة الاستبداد الإجرامية فيه على ما كانت عليه، انتقاما وتنكيلا.
2- إغراء الثائرين من "المهمّشين" في معيشتهم وفي مدنهم وقراهم، جيلا بعد جيل، بوعود التنمية السخية والعمران غير المسبوق.. عن طريق أحد أفراد العائلة الراعية للاستبداد والفساد، كما لو أنّها تصدّق نفسها فعلا أنه يوجد من شعب ليبيا بعدُ من يمكن أن يصدّق وعودها.. فلا يزيد الشعبَ مزيدٌ من الوعود إلا مزيداً من التصميم على متابعة طريق الثورة المتنامية، والأمل أن يتسارع ما بدأ من انتشارٍ لشعلتها في غرب البلاد بعد أن عمّت وانتشرت في شرقها.
3- تصرّفات استعراضية عبثية، أصبح عنوانها في تونس معروفا: "فهمتُكم"، وفي مصر معروفا: "أعي ما تريدون".. وإذا بها تأخذ في "الجماهيرية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى" عنوان "التحام قائد الثورة مع الجماهير"، وجماهيرُه في "مظاهرته ضدّ الشعب" –هم كجماهير سواه من المستبدين- كلّ من يستطيع تعبئتهم من فئات المروِّضين والمروَّضين في الأجهزة القمعية، وبعض من لا تزال الأساليب الإرهابية تشدّ الوثاق عليهم.
الاستبداد ملّة واحدة.. وإن تفاوت ببعض ممارساته ودرجات إجرامه بين بلد وآخر، ورغم كثرة أصناف الحكم الاستبدادي على مرّ الحقب التاريخية فهو يتميّز في بعض البلدان العربية، -ومنها ليبيا- بدرجة من الإجرام المروّع لنشر الرعب قلّ نظيرها، فضلا عن عمل متواصل لتمزيق فئات الشعب الواحد، إلى أقلية يتمّ ترويض أفرادها على اقتناص الأرواح واغتيال الآمال وتقاسم الغنائم، وغالبية كبرى.. هي "الغنائم". من الأمثلة على ذلك: "الأجراء"، الذين لم يصبحوا شركاء في ثروات أرضهم، ولا في حصيلة عطاءات فكرهم وجهدهم، ولا عاشوا أجراء يحصلون على أجر نزيه لقاء ما يبذلون وينتجون، فأصبحت معاناتهم لمجرد البقاء على قيد الحياة، كرقيق العصور القديمة فقرا وبؤسا وقهرا.. في دولة من الدول الثرية بالنفط الخام، وهو في أرضهم هم!..
حتى أنصار الاستبداد والفساد داخل ليبيا يقرّون باساليب ملتوية بحقيقة أنّ اللجان الثورية والشعبية ولجان العنف الثوري اصبحت أدواتٍ للفساد والثراء الفاحش، ويطالبون الثائرين باللجوء إلى المؤتمرات الشعبية.. والثائرون يعلمون أنّها منذ نشأت أدواتٌ للاحتيال والقهر.
سقوط "الجماهيرية الاستبدادية"
لئن تضمن "عصر الجماهيريات" في ليبيا فارقا يستحق الذكر عن "عصر الاستبداد" الذي قوّضته ثورة الشعب في تونس غربا وثورة شعب مصر على الاستبداد شرقا، فهو الفارق في أنّ ارتكاب الكبائر في أساليب القمع كان أسرع ظهورا للعيان، وأفحش إجراما في إزهاق الأرواح، وأوسع نطاقا في العمل على تحويل ليبيا إلى سجن كبير لا يرى الناظر من خارج الحدود، إلا بصعوبة بالغة بعض ما يجري في الشوارع من استباحة رهيبة للدماء، يمكن تصوّر مداها من وراء القليل.. القليل الذي يشقّ طريقه رغم التعتيم، من مشاهد الثورة من جهة وانفلات الفتك الإجرامي من جهة أخرى.. وهو ما تبوح به ألسنة بعض المتحدثين عبر الهواتف الخلوية، أو الصور المتسرّبة عبر بقايا "اتصالات شبكية".. وجميع ذلك وسط الآلام ورغم المخاطر، فقد تكرّر اعتقال المتحدثين أو "اختفائهم" بعد سويعات من نقلِ ما يرونه بأمّ أعينهم، أو يتحدّثون عنه من أهدافٍ لا تتجاوز حدود "الكرامة والتحرر".
هذه الممارسات وسواها تؤكّد –إلى جانب ما تتميّز به ثورة الشعب في ليبيا- وجود ملامح واضحة مشتركة لها مع ثورات الشعوب العربية الأخرى، وسيضاف إليها: تحقيق نصر قريب.. ومن تلك الملامح:
انطلاقة الثورة انطلاقة شعبية عفوية كما كانت في تونس ومصر..
ومحور الثورة هو تقويض الاستبداد والفساد كما كانت في تونس ومصر..
ويجد الثائرون في ليبيا من تضامن الشعوب ونبضات القلوب ودعاء الألسنة والأفئدة مثل ما وجده الثائرون في تونس ومصر..
وانتصار هذه الثورة بهذه الملامح سيبدأ بإذن الله بتحقيق الهدف الأوّل مثلما كان مع ثورتي شعب تونس وشعب مصر: الشعب يريد إسقاط النظام.
ولن تكون ليبيا –مهما كانت حصيلة هذه الجولة.. أو هذه الثورة المتنامية- مثلما كانت قبل اندلاعها، ولن يكون للاستبداد والفساد مجال للاستقرار، فلا استقرار فوق دماء الشهداء والجرحى، ولن يمضي زمن طويل إلا ويضاف مبتدِع "الجماهيرية الاستبدادية" إلى حيث يرقد سواه من مشاهير الإبداع في الاستبداد، من فرعون والنمرود ونيرو قديما، ومبارك وبن علي.. ومن سيليهما حديثا، فصفحات التاريخ لا يكتبها هراءٌ عبثي أو دهاء تسلّطي، وإن طال بالمستبدين المقام، إنّما تكتب التاريخَ ثورات الأحرار وتضحيات الأحرار وقدرة الأحرار على تقويض دعائم الاستبداد والمستبدين والفساد والمفسدين، واقتلاعها من الجذور.
رابعا اليمن .. ثلاثون عاما من القمع :
لا يختلف حاكم اليمن من حيث أصل وجوده في الحكم طوال 33 سنة، وجوهر ممارساته خلالها، عمّن حكم في تونس 23 سنة وأسقطه شعب تونس، ومن حكم في مصر 30 سنة وأسقطه شعب مصر، ومن حكم في ليبيا 42 سنة ويوشك أن يسقطه شعب ليبيا رغم بطشه الهمجي، متحصناً وراء جُدُر باب العزيزية.
لم يتفوّق أحد من هؤلاء المستبدين على الآخر بالعدل، بل بدرجات الاستبداد، وكل استبداد جريمة بحق الحريات والحقوق الإنسانية، فهو مرفوض من حيث الأساس بمختلف المقاييس.
كما لم يتفوّق أحد من هؤلاء المستبدين بتحقيق أسباب المعيشة الكريمة لشعبه، بل بالفساد والمحسوبية ونهب الثروات وتقاسمها بين المسيطرين على السلطة بالقوة، وتكفي الإشارة في حالة اليمن حيث يبلغ العجز في الميزانية أكثر من 35 في المائة، إلى أنّ متوسط الدخل الفردي اسمياً يعادل أكثر من 1100 دولار سنوياً، أما على صعيد الواقع فيعيش أكثر من 40 في المائة من السكان تحت خط الفقر، منهم زهاء 17 في المائة من مجموع السكان بدخلٍ يومي دون دولار وربع الدولار للفرد الواحد، وهو ما يكشف عن تركيز دخل البلاد في أيدي الفئة المسيطرة من خلال الاستبداد والفساد.
كما يتفوّق المستبدون بعضهم على بعض من حيث ما يبتدعونه من أساليب التسلّط على مفاصل أجهزة السيطرة القمعية، واستخدامها على حساب كرامة الإنسان وحقوق الشعب وحرياته، وما عرف الشعب في بلد من هذه البلدان وحدة حقيقية بين فئاته وطوائفه وأحزابه وتجمّعاته وقبائله في ظلّ حكم استبدادي، ولا يمكن أن يعرف، إنّما تجلّت الوحدة الشعبية بأرقى صورها حيثما استطاعت الثورة أن تنتزع الشعب ممّا فرضه الاستبداد من انقسامات ونزاعات ومن تحريض فئة من الشعب على أخرى، ومن ترويض فريق يختارهم الاستبداد بمختلف أسباب الترويض «الحديثة» لممارسة الفتك والتنكيل.. ليكونوا «آذاناً» تتجسّس على أنفاس أبناء الشعب، و«قضباناً» لمن يريد الاستبداد سجنَهم من أحرار الشعب، و«رصاصاً» موجّهاً إلى صدور الثوار من أهل البلد الواحد.
إنّ ما يجمع اليمن وسواه من البلدان العربية التي يحكمها الاستبداد أمران اثنان ينطوي تحتهما ما سواهما، عنوان أوّلهما: استبداد مرفوض، وعنوان ثانيهما: ثورة شعبية مفروضة منتصرة، وجميع ما سوى ذلك تفاصيل لا ينبغي الاشتغال بها.
ليست القضية قضية «عدد الضحايا» من معتقلين ومنفيين ومن شهداء وجرحى، بل هي مسؤولية الحاكم المستبد ومن معه التي تجعل إسقاطه هدفاً مشروعاً.. ولو اقتصر العدد على ضحية واحدة، ولم يبلغ المئات أو الألوف كما هو الحال في اليمن.
وليست القضية قضية «عدد العاطلين من العمل» و«عدد الفقراء والمحرومين» و«حجم الثروات المنهوبة» و«حجم الطاقات المهدرة»، إنّما هي مسؤولية الحاكم عن نشر البطالة والفقر والحرمان ونهب الثروات وهدر الطاقات، وكلّ قسط صغير أو كبير من ذلك يجعل من إسقاطه مطلباً لا مندوحة عنه.. حتى ولو اقتصر ذلك على معاناة أسرة واحدة من الشعب نتيجة الظلم، وثراء فرد واحد ثراءً فاحشاً من أركان السلطة المستبدة نتيجة الفساد.
لقد صنع الحكم الاستبدادي في اليمن من أسباب الثورة عليه ما يحمّله المسؤولية عن كلّ قطرة دم تسيل، وكل أنّة ألمٍ تنطلق، وكلّ درهم يُنفق ظلماً وعدواناً على رصاصة تستقرّ في صدر إنسان.. من أهل اليمن.
وصل حاكم اليمن إلى السلطة في اليمن الشمالي عام 1978م، ثم كرئيس لليمن الموحد عام 1990م، فقضى بذلك زهاء نصف عمره (70 سنة) على كرسي السلطة، وفوق أمواج لا تنقطع من النزاعات وإراقة الدماء. بدأ عهده إثر اغتيالاتٍ في اليمن الشمالي أودت خلال شهور معدودة بحياة الرئيس السابق إبراهيم الحمدي، ثم الرئيس السابق أحمد الغشمي.. ودخل المرحلة الثانية من ممارسة السلطة عبر توحيد شطري اليمن، وكان في أعقاب سلسلة نزاعات مسلحة في الجنوب، بينما حفلت السنوات الأربع الأولى من الوحدة في عهد حاكم اليمن الحالي بتوترات ونزاعات متتابعة، أفضت إلى حرب 1994م، ثمّ لم تنقطع بعدها الضغوط والضغوط المضادة، بين الشمال والجنوب، كما لم تنقطع جهود تفصيل الدستور، وتمرير الانتخابات الصورية كانتخابات عام 1999م ثم انتخابات 2006م، لترسيخ الاستبداد الفردي والحزبي، ولم تنقطع في عهد الحاكم، وكان منها ما عُرف بتمرّد الحوثيين منذ عام 2004م.
33 سنة.. من حكم الفرد وأقاربه وحزبه في اليمن، لماذا؟.
لو كان أعدل حاكم عرفه التاريخ، وأقدر حاكم على تحقيق ما يحمل الحاكم المسؤولية عن تحقيقه من أمن وسلام ووحدة، ومعيشة كريمة وتقدّم ونهوض.. وسوى ذلك من أهداف شعبية مشروعة، فمن المفروض أن يؤدّي الحاكم قسطاً من الإسهام في مسيرة اليمن وشعب اليمن نحو هذه الأهداف، ويتنحّى ليساهم سواه في متابعة المسيرة، لا أن يجعل من نفسه سجّاناً ومن البلد سجناً ومن أهله إماءً وعبيداً.
نهاية الاستبداد واحدة
لم يقتصر الأمر على عجز حاكم اليمن عن تحقيق ما يُفترض بالحاكم أن يحققه إذا كان على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقه، وعلى قدر من الكفاءة التي تسوّغ وجوده في الحكم أصلاً.. بل كان بسياساته وممارساته من وراء نشر المظالم لا العدالة، والمخاوف لا الأمن، والحروب والنزاعات بدلا ًمن السلام والوحدة، ومن وراء انتشار انتهاكات الحريات والحقوق وتعميم الفقر والحرمان، وترسيخ التخلّف بجميع مظاهره.
إنّ القتل العلني للمتظاهرين على أبواب الجامعات والمساجد، وفي الشوارع والميادين، في المدن الشمالية والجنوبية.. هو الامتداد المحتم لممارسات الاستبداد منذ سنين وسنين عبر الاعتقالات والبطش بالخصوم، واصطناع مواد دستورية وتشريعات قانونية لا تقوم على أسس تشريعية قويمة، ولا تستند إلا إلى التسلّط على مؤسسات الدولة.
ولو اقتصر الأمر فقط على توزيع مقاليد السلطة المغتصبة والثروات المنهوبة، على أفراد عائلة الحاكم المستبدّ وأعوانه، لكفى بذلك سبباً للثورة الشعبية عليه، والمطالبة بسقوطه مع عائلته وأعوانه والمنتفعين من تسلّطه.. ولقد أصبح سقوطه وشيكاً، ليلحق بمن سبقه، ويسبق من سيلحق به.
خاتمة تاريخ الثورات في مصر :
أولها ثورة عرفتها البشرية هي الثورة على الملك بيبي الثاني قبل حوالي 45 قرن في أواخر الأسرة الفرعونية السادسة التي كان يسيطر عليها الملك الضعيف بيبي الثاني، الذي اعتلى العرش وعمره ست سنوات حيث كانت أمه وصية عليه في البداية واستمر حكمه لمدة 94 عاما.
وقد عرفت مصر في عهده وقبل وبعد ذلك مائتي سنة أو أكثر من الظلم والفساد والحروب القبلية، حيث كان حكام المدن في حالة صراع، والقبائل البدوية تغزو البلاد من الشرق والغرب. وكان لطول مدة حكمه أثره في ضعف الأسرة المالكة، فبسبب كبر سنه أصبح غير قادر على فرض طاعة حكام الأقاليم الذين زادت سلطتهم ولم يدينوا بالولاء للملك وامتنعوا عن دفع الجزية حيث استقلو بأقاليمهم واستبدوا بالاهالي، وفرضوا المكوس الجائرة، ونهبوا الأقوات، وأهملوا إصلاح الري والأرض، وظهرت الفوضى وعدم الأمن وأهملت القوانين وزاد السلب والنهب.
واباح لهم الكهنة بفتاواهم الكاذبة كل منكر، حرصا على أوقافهم، فكلما قصدهم مظلوم طالبوه بالطاعة والصبر ووعدوه بحسن الجزاء في العالم الأخر! وبلغ اليأس غايته، فلا حاكم يعدل، ولا قانون يسود، فانطلقت الثورة ومحاربة الظلم، وسرعان ما استجاب القوم إلى النداء، فحطموا حاجز الخوف، ووجهوا ضربتهم القاتلة الى الطغاة والظالمين.
أما في العصر الحديث فهناك الثورة العرابية وهي الثورة التي قادها أحمد عرابي في فترة 18791882 ضد الخديوي و التأثير الأوربي و سميت آنذاك هوجة عرابي. وإندلعت تلك الثورة إثر قرار طرد الضباط المصريين من الجيش المصري. ولكن في النهاية فشلت هذه الثورة حيث احتجز أحمد عرابي في ثكنات العباسية مع نائبه طلبة باشا حتى انعقدت محاكمته في 3 ديسمبر 1882 والتي قضت بإعدامه. تم تخفيف الحكم بعد ذلك مباشرة بناءا على اتفاق مسبق بين سلطة الاحتلال البريطاني والقضاة المصريين إلى النفي مدى الحياة إلى سرنديب أو ما يسمى سيلان حاليا.
ثم حدثت ثورة 1919 وهي ثورة بقيادة سعد زغلول زعيم الحركة الوطنية المصرية. جاءت هذه الثورة في ظل المعاملة القاسية من قبل البريطانيين بحق المصريين، والأحكام العرفية التي أصدرت بحق المصريين بالإضافة إلى رغبة المصرين بالحصول على الاستقلال. أتت هذه الثورة نتيجة مطالبة سعد زغلول بالسماح للوفد المصري بالمشاركه في مؤتمر الصلح في باريس، وعندما رفضت بريطانيا هذه المشاركة واصرار سعد زغلول عليها اضطرت إلى نفيه هو ومحمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقى إلى مالطة، فانفجرت الثوره في كل مكان في مصر واشتركت فيها المصريين. وكانت أول ثورة تشترك فيها النساء في مصر، بقيادة صفية زغلول مطالبين بالإفراج عن سعد زغلول، فاضطرت السلطات البريطانية إلى الرضوخ للمطلب الشعبي وأفرجت عن سعد زغلول. هذه الثورة أعطت للبريطانيين الضوء الأحمر والتي جعلت البريطانين يقومون بإلغاء الأحكام العرفية، ووعد المصريين بالحصول على الاستقلال بعد ثلاث سنوات مقابل إبقاء قوات بريطانية في مصر.
ثورة يوليو بدأت بانقلاب عسكري قام به ضباط جيش مصريون ضد الحكم الملكي في 23 يوليو 1952 وعرف في البداية بالحركة المباركة ثم أطلق عليها البعض فيما بعد لفظ ثورة 23 يوليو. بعد حرب 1948 وضياع فلسطين ظهر تنظيم الضباط الأحرار في الجيش المصري بزعامة اللواء محمد نجيب وفي 23 يوليو 1952 قام التنظيم بانقلاب مسلح نجح في السيطرة على الأمور والسيطرة على المرافق الحيوية في البلاد وأذاع البيان الأول للثورة بصوت أنور السادات وأجبرت الحركة على الملك التنازل عن العرش لولي عهده الأمير أحمد فؤاد ومغادرة البلاد في 26 يوليو 1952.
وشكل مجلس وصاية على العرش ولكن إدارة الأمور كانت في يد مجلس قيادة الثورة المشكل من 13 ضابط برئاسة محمد نجيب كانوا هم قيادة تنظيم الضباط الأحرار ثم ألغيت الملكية وأعلنت الجمهورية في 18 يونيو 1953. قامت الثورة على مبادئ ستة كانت هي عماد سياسة الثورة وهي
إنجازات ثورة يوليو محليا وعربيا :
أ-الانجازات السياسية
تاميم قناة السويس
استرداد الكرامة والاستقلال والحرية المفقودة على ايدي المستعمر المعتدي
السيطرة على الحكم في مصر وسقوط الحكم الملكي
اجبار الملك على التنازل عن العرش ثم الرحيل عن مصر إلى إيطاليا
الغاء النظام الملكي وقيام الجمهورية
توقيع اتفاقية الجلاء بعد أكثر من سبعين عاما من الاحتلال
بناء حركة قومية عربية للعمل على تحرير فلسطين
ب-انجازات ثقافية
انشات الثورة الهيئة العامة لقصور الثقافة وقصور الثقافة والمراكز الثقافية لتحقيق توزيع ديموقراطي للثقافة وتعويض مناطق طال حرمانها من ثمرات الابداع الذي احتكرته مدينة القاهرة وهو ما يعد من أهم وابرز انجازاتها الثقافية
إنشاء اكاديمية تضم المعاهد العليا للمسرح والسينما والنقد والباليه والاوبرا والموسيقى والفنون الشعبية
رعاية الاثار والمتاحف ودعم المؤسسات الثقافية التي انشاها النظام السابق ثقافي
سمحت بإنتاج افلام من قصص الادب المصري الاصيل بعد أن كانت تعتمد على الاقتباس من القصص والافلام الاجنبية
ج-انجازات تعليمية
قررت مجانية التعليم العام واضافت مجانية التعليم العالي
ضاعفت من ميزانية التعليم العالي
اضافت عشرة جامعات انشئت في جميع أنحاء البلاد بدلا من ثلاث جامعات فقط
إنشاء مراكز البحث العلمي وتطوير المستشفيات التعليمية
د-انجازات اقتصادية واجتماعية
تعتبر الثورة العصر الذهبي للطبقة العاملة المطحونة الذين عانوا اشد المعاناة من الظلم وفقدان مبدا العدالة الاجتماعية
اسفرت الثورة عن توجهها الاجتماعي وحسها الشعبي مبكرا عندما اصدرت قانون الملكية يوم 9 سبتمبر 1952
قضت على الاقطاع وانزلت الملكيات الزراعية من عرشها
مصرت واممت التجارة والصناعة التي استاثر بها الاجانب
الغاء الطبقات بين الشعب المصري وأصبح الفقراء قضاة واساتذة جامعة وسفراء ووزراء واطباء ومحامين وتغيرت البنية الاجتماعية للمجتمع المصري
قضت على معاملة العمال كسلع تباع وتشترى ويخضع ثمنها للمضاربة في سوق العمل
حررت الفلاح باصدار قانون الإصلاح الزراعي
قضت على السيطرة الراسمالية في مجالات الإنتاج الزراعي والصناعي
توحيد الجهود العربية وحشد الطاقات العربية لصالح حركات التحرر العربية اكدت للامة من الخليج إلى المحيط ان قوة العرب في توحدهم وتحكمها اسس اولها تاريخي وثانيها اللغة المشتركة لعقلية جماعية وثالثها نفسي واجتماعي لوجدان واحد مشترك اقامت الثورة تجربة عربية في الوحدة بين مصر وسوريا في فبراير 1958 قامت الثورة بعقد اتفاق ثلاثي بين مصر والسعودية وسوريا ثم انضمام اليمن الدفاع عن حق الصومال في تقرير مصيره ساهمت الثورة في استقلال الكويت قامت الثورة بدعم الثورة العراقية أصبحت مصر قطب القوة في العالم العربي مما فرض عليها مسئولية والحماية والدفاع لنفسها ولمن حولها ساعدت مصر اليمن الجنوبي في ثورته ضد المحتل حتى النصر واعلان الجمهورية ساندت الثورة الشعب الليبي في ثورته ضد الاحتلال دعمت الثورة حركة التحرر في تونس والمغرب حتى الاستقلال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق